الرهبة من المكتبة (Library Anxiety)
في العام الميلادي السادس والثمانون بعد التسعمائة والألف قدمت الباحثة ميلون (Mellon) للمختصين في دراسات المكتبات والمعلومات نتائج دراسة قامت بها حول مدى رهبة الطلاب من المكتبة وذلك خلال استخدامهم لها في أحد المقررات الدراسية التي كانت تقوم بتدريسها لهم. كانت هذه الدراسة –ولا تزال- علامة بارزة وسبقاً علمياً في مضمار الدراسات النفسية الخاصة باستخدام المكتبات ومصادر المعلومات والخدمات المتعلقة بهما، وقد توصلت ميلون في دراستها تلك إلى أن 75-85% من عينة الدراسة قد وصفوا أولى محاولاتهم لاستخدام المكتبة بعبارات الرهبة والخوف من تلك التجربة[1]. فما هي تلك الرهبة التي يحسها الطالب عند محاولته استخدام المكتبة؟
الرهبة من المكتبة ببساطة عائق نفسي يمنع الطالب من استخدام المكتبة[2]، ولهذا فالطالب الذي يشعر بهذه الرهبة يعاني من الارتباك والقلق والشعور بالضيق عندما يتطلب منه الأمر استخدامها. هذه الأحاسيس غير المريحة تتولد بسبب عدم فهمه لكيفية استخدام المكتبة وكذلك عدم وجود الخبرة لديه للقيام بذلك[3].
كما أن هذه الرهبة تجعل الطالب -أو مستخدم المكتبة في العموم- غير قادر على الشروع في مهمته البحثية بشكل منطقي وفعال[4] وإنما يتّسم بحثه فيها بالارتباك والضياع والإحساس بأنه غير قادر بتاتاَ على إتمام عملية البحث. كما أن من أبسط وأوضح نتائج الرهبة من المكتبة أن القدرة العقلية على تحديد مواقع الأشياء داخل المكتبة تضعف بشكل كبير –بل ربما تتعطل كلياً- بسبب هذه الرهبة والضغط النفسي، وهذا الأمر يزداد كلما كان الطالب أو مستخدم المكتبة جديداً على النظام أو المكتبة[5].
بالإضافة إلى ما سبق فإن الطالب –أو مستخدم المكتبة- الذي يعاني من هذه الرهبة يفترض في نفسه أن غيره من الطلاب أكثر مهارةً منه وأقدر على استخدام المكتبة، وأن نقص هذه المهارة لدية وعدم قدرته على مقارعة زملاءه أمر مخجل يجب كتمانه عن الآخرين، ولهذا فهو يرى أنه من الأفضل له أن لا يسأل عما لا يعرف لكي لا يُظهر جهله للآخرين[6].
أما أسباب هذه الرهبة فهي عديدة ومتنوعة نذكر منها كبر حجم المكتبة وعدم معرفة الطالب لمواقع الأشياء داخلها وجهله أساسيات وخطوات البحث فيها، وكذلك جهلة مصادر المعلومات المناسبة لاحتياجه، وأيضاً عدم قدرته على استخدام التقنيات الموجودة في المكتبة بالإضافة إلى نوعية تعامل وتعاون المكتبي مع الطالب عند سؤاله المساعدة وغيرها من الأسباب[7].
إن نتائج الدراسة آنفة الذكر –وغيرها من الدراسات التي لا يسع المقام هنا لذكرها- تتحدث عن طلاب جري تعليمهم في نظام تعليمي أدرك أهمية المكتبة مبكراً وجعلها جزأً لا يتجزأ من دورة الحياة التعليمية هناك، كما أن المكتبة هناك تقدم أشكالاً مختلفة من الخدمات والتدريب على كيفية الاستفادة منها تساعد الطالب على التغلب على رهبته وخوفه من استخدامها؛ ومع هذا فهم يعانون من الرهبة عند حاجتهم لاستخدام المكتبة! فما حال طلابنا نحن وهم يفتقدون إلى وجود المكتبة أصلاً في الكثير من المدارس فضلاً عن الخدمات والتدريب! أما حالَ وجودها فإنها تظهر على استحياء وببنية ضعيفة لا تمكنها من تقديم الخدمات المتوقعة منها لأسباب لا تتعلق فقط بضعف التجهيز والإمكانيات ولكنها تتعدى ذلك إلى عدم توظيفها أصلاً في المقررات الدراسية والنظام التعليمي ككل.
إن مما يضاعف القلق من ظهور وتمكن مشكلة الرهبة من المكتبة بين طلاب مدارسنا ما ورد في إحصائية وزارة المعارف الصادرة عام 1422/1423هـ بشأن عدد المدارس المستأجرة التابعة للوزارة -دون غيرها من الجهات- والخاصة بالبنين فقط في جميع مراحل التعليم العام، فقد بلغ العدد الكلي لمدارس البنين 7960 مدرسة، منها ما يقارب 56% تقبع في مبانٍ مستأجرة، والجميع يعرف ماذا تعني كلمة مبنى مدرسي مستأجر من حيث عدم الملائمة كمكان للتعليم ناهيك عن توفر جميع المرافق المطلوبة في المدرسة فيه، فكيف لنا أن نتوقع احتوائها على مكتبات؟ وحتى في حال توفر المكتبات فيها فليس من المتوقع أن تتصف بالنموذجية من حيث التجهيزات والخدمات، ولكنها لن تعدو أن تكون مستودعات كتب أكثر من كونها مكتبات، فضلاً عن إشراف غير المختصين عليها![*]
وجانب آخر مثير للقلق أيضاً وهو الوضع الحالي للمناهج الدراسية، فالمتأمل لهذه المناهج يستطيع وبسهولة أن يكتشف أنها صممت وألفت أصلاً دون أن تربط بالمكتبة ومصادرها المختلفة، فالطالب لا يلزم –بل لا يطلب منه أصلاً- استخدام المكتبة، كما أن النظام والمنهج لا يساعدان الأستاذ على القيام بذلك حتى لو رغب، وهذا يعني الاستمرار في القطيعة بين المنهج والمكتبة مما يترتب عليه تولد الرهبة من المكتبة لدى الطالب.
ولا بد أن نعلم هنا أن هذا النوع من الرهبة ربما يكبر بسبب الإهمال حتى يكون في القادم من الأيام -حين يكون استخدام المكتبة ومصادر المعلومات المختلفة ضرورة لا مهرب منها- عائقاً حقيقياً يمنع الطلاب من مجرد التفكير في اللجوء إلى المكتبة فضلاً عن استخدامها فعلاً، كما أن الوفرة الكبيرة في المعلومات ومصادرها أو ما يسمى بانفجار المعلومات وكذلك اتجاه كثير من المكتبات إلى استخدام التقنية في تقديم خدماتها وإثراء مصادرها -خاصة الأكاديمية والمتخصصة منها- أمر يزيد الضغط على مستخدمي المكتبة ويزيد من ترددهم وحيرتهم عند الحاجة لاستخدامها.
إن أخذ ما سبق بعين الاعتبار وتصور أهمية المكتبة وموقعها من العملية التعليمية وأنه بدونها لا يمكن أن نوجد نظاماً تعليمياً مثالياً يتاح فيه للطالب تعلم مهارات البحث فيها وفي غيرها من المصادر الأخرى الحديثة للمعلومات كجزء لا يتجزأ من المقررات الدراسية؛ فإننا سنجد أنفسنا في نهاية المطاف أمام أعداد مهولة من الخريجين الذين يتصفون بانعدام الإبداع فيما يناط بهم من أعمال وهم قادرون فقط على التنفيذ الحرفي لما يطلب منهم وهو ما يتعارض تماماً مع اتجاه سوق العمل إلى البحث عن الموظف بناء على مهارته وقدراته أولاً وقبل تأهيله العلمي.
إنه لا يمكن تجاهل مثل هذه المشكلة في المجتمع التعليمي هنا خاصة وأن المحيط العام الذي يعيشه الطالب في مراحل تعليمه المختلفة -خاصة مراحل التعليم العام- تجعله مهيأً بشكل كبير لالتقاط فيروس الرهبة من المكتبة ونقله إلى زملاءه من خلال تبادل الخبرات السلبية. إن المتتبع لأحوال الطلاب –وغيرهم من رواد المكتبات- عند استخدام المكتبة لابد أن تمر عليه بعض الصور التالية: طالب يتجنب استخدام الفهارس الآلية ويتجه لاستخدام الفهرس البطاقي مادام موجوداً، وآخر يرى أن نظام التصنيف وقراءته على الرفوف معقد جداً لهذا فهو يكتفي بما يقدمه المكتبي له من أوعية معلومات، أو يكتفي بالبحث في مصادر المعلومات الإلكترونية خوفاً من عدم قدرته على الحصول على ما يريد من على الرفوف، وثالث يطلب من أحد زملاءه الحضور إلى المكتبة معه والقيام بكل ما يلزم نيابة عنه لأنه باختصار لا يعرف كيف يقوم بذلك ويستصعب تعلمه.
إضافة إلى ما سبق فقد عايش كاتب هذه السطور ردود فعل بعض –وليس معظم لكي لا يكون متشائماً- طلابه في المستويات الجامعية الدنيا عندما يطلب منهم إنجاز مهمة بحث في المكتبة أو في أي مصدر معلومات إلكتروني. ردود الفعل تلك كانت سلبية جداً وهي تبيّن أن الطالب ببساطة لا يعرف كيف يقوم بهذه المهمة ويشعر أن نقل جبل من مكانه أهون عليه من إتمامها.
أما فيما يتعلق بكيفية التغلب على هذه المشكلة فإنه يمكن حلها بمزيج من الوسائل التي تشجع على استخدام المكتبة ومن ثم القضاء على رهبتها بين الطلاب، ومنها:
- توفير مكتبة متكاملة بشكلها الحديث الذي يجمع بين المصادر التقليدية وغير التقليدية في كل مدرسة في جميع مراحل التعليم العام.
- جعل استخدام المكتبة والرجوع إليها للحصول على المعلومات جزأً رئيساً في الهيكل التعليمي ككل وفي جميع المناهج والمقررات الدراسية، مع الحرص على أن يتزامن ذلك مع التدريب المناسب للطلاب على المهام التي تطلب منهم في كل مقرر.
- توفير مكتبي متخصص أو أكثر (حسب حاجة كل مكتبة) في كل مكتبة وتدريبه على التعامل المناسب مع كل نوع من أنواع الرواد وكيفية تدريبهم على استخدام المكتبة وإزالة الرهبة منها لديهم.
- الحرص على غرس محبة المكتبة لدى طلاب المراحل الأولى من صغار السن من خلال البرامج المناسبة لهم وتكثيف استخدامهم وزياراتهم لها.
- قيام المدرسين بزيارة المكتبة بشكل متكرر برفقة طلابهم ومساعدتهم في استخدام مصادرها بالتعاون مع المكتبي.
- توفير البرامج التدريبية على استخدام المكتبة التي تناسب كل مرحلة من المراحل الدراسية والمبادرة بتقديمها للطلاب بمجرد دخولهم للمدرسة وعدم الركون وانتظار حضورهم إلى المكتبة لتُقدم لهم.
- التركيز على تعليم الطلاب مهارات وخطوات عملية البحث التي يمكن لهم استخدامها في المواقف المختلفة من خلال التركيز على التسلسل المنطقي الذي يجب إتباعه في كل عملية بحث في المكتبة.
- أن يتخاطب المكتبي مع الطلاب بلغة بسيطة تبتعد عن اللغة و المصطلحات التخصصية التي قد لا تكون مفهومة لديهم[8].
- عرض الخدمات على الطلاب وعدم انتظار أسئلتهم التي قد لا يبادرون بها أبداً.
- وضع لوحات تدل على أقسام المكتبة وتجهيزاتها ومكوناتها وكيفية استخدامها والوصول إليها بشكل واضح وجذاب وبسيط.
- الإعلان عن كل جديد يضاف إلى المكتبة من أوعية معلومات أو تقنيات أو خدمات أو غيرها في مكان بارز في المدرسة وداخل المكتبة.
ختاماً فإن قائمة الحلول السابقة أوردت للتمثيل وليس لحصر جميع الوسائل التي تساعد على القضاء على الرهبة من المكتبة، كما أن الدراسات حول الحلول المناسبة للقضاء على هذه المشكلة لازالت قليلة مقارنة بالدراسات التي تصف وتشخص هذه المشكلة، لهذا فإن المجال لازال واسعاً رحباً لإبراز التجارب والخبرات الناجحة في هذا المجال.
[*] لا بد من الإشادة هنا بالخطة الطموحة لوزارة المعارف والرامية إلى تطوير المكتبة المدرسية لتصبح مركزاً لمصادر التعلم يضم مصادر المعلومات التقليدية والإلكترونية، كما يحتوي على الأجهزة المساعدة لإتمام العملية التعليمية، ونرجو أن نرى ذلك في أرض الواقع في جميع مدارسنا قريباً. هذه الخطوة يجب أن تعضد بخطوات أخرى لا تقل أهمية عنها وذلك بإعادة النظر في المناهج الحالية من خلال ربطها بهذا المركز وجعل استخدامه جزءاً لا يتجزأ من العملية التعليمية.
[1] Mellon, Constance A. (1986). “Library Anxiety: A Grounded Theory and its Development.” College & Research Libraries, 47(2):160-165.
[2] Jiao, Qun G.; Onwuegbuzie, Anthony J. & Lichtenstein, Art A. (1996). “Library Anxiety: Characteristics of ‘At-Risk’ College Students.” Library & Information Science Research, 18(2):151-163.
[3] Mellon, “Library Anxiety: A Grounded Theory and its Development.”
[4] Ibid.
[5] Keefer, Jane (1993). “The Hungry Rats Syndrome: Library Anxiety, Information Literacy, and the Academic Reference Process.”RQ, 32(3):333-339.
[6] Mellon, “Library Anxiety: A Grounded Theory and its Development.”; and Mellon, Constance A. (1988). “Attitudes: The Forgotten Dimension in Library Instruction.” Library Journal, 113(14):137-139.
[7] Mellon, “Library Anxiety: A Grounded Theory and its Development.”; and Kuhlthau, Carol C. (1991). “Inside the Search Process: Information Seeking from the User’s Perspective.” Journal of the American Society for Information Science, 42(5):361-371.
[8] Mellon, “Attitudes: The Forgotten Dimension in Library Instruction.”