المحفوظات ذاكرة الشعوب

د احمد علي ; أستاذ مساعد بقسم المكتبات والمعلومات ; -كلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة دمشق ; البريد الالكتروني : ahmadal@scs-net.org ; ;

 

إذا كانت المحفوظات تلازم الفرد منذ ولاد ته وابتداء من أول  وثيقة يحتفظ بها , شهادة الولادة, فإن المحفوظات تبدأ على مستوى المؤسسات حتى ما قبل ولادتها , ولذلك فإن المحفوظات بمختلف أشكالها وألوانها تكتسب أهمية خاصة بالنسبة للمؤسسات ؛ فهي كيانها ووجودها وذاكرتها وتاريخها .

ولا يخفى على أحد تزايد أهمية المعلومات والوثائق في عصر المعلومات. ولذلك لا بد من حفظ هذه المعلومات والوثائق بطريقة علمية تسهل الحصول عليها عند حاجتها وطلبها .

المحفوظات كلمة متداولة , يشيع استخدامها في الأوساط الإدارية كمقابل للمصطلح الإنكليزي records . وقد دخلت دائرة الاستعمال الرسمي لتطلق أحياناً على مجموعة المستندات التي توجد بحوزة الأجهزة الإدارية الحكومية  ( 1 ).

وكلمة محفوظات أطلقت على مجموعة الوثائق التي أمر محمد علي باشا بتجميعها في الدفترخانة التي أنشأها بالقلعة سنة 1829, ثم تطور الأمر إلى استخدام هذه الكلمة كاسم للدفتر خانة العمومية بعد ذلك , حيث أطلق عليها ” دار المحفوظات العمومية ” ( 2 ) .

وقد استخدمت هذه الكلمة من جانب بعض المتخصصين كمرادف لكلمة أرشيف للدلالة على الوثائق الجارية ( الوثائق الإدارية ) لهيئة أو إدارة أو ديوان أو مصلحة حكومية, وكذلك للدلالة على الوثائق الأرشيفية ذات القيمة التاريخية الدائمة ( 3 ) .

وقبل مناقشة مدى دقة هذه الاستخدامات , يجدر بنا التعرف على معنى الكلمة في اللغة العربية , لعل في ذلك ما يوضح لنا كيفية استعمالها على وجه صحيح .

كلمة محفوظات مشتقة من الفعل يحفظ ومصدره حفظ بمعنى منع من الضياع أو التلف , ويقال حفظ السر أي كتمه وحفظ المال أي رعاه , ومن مزيد الفعل احتفظ واستخفظ وهما في نفس المعنى . والِحفظ ( بكسر الحاء ) قلة الغفلة , والحفيظة الغضب والحميه , والحافظة قوة الذاكرة , واُلمِحفظة ( بضم الميم وكسر الفاء ) الأمر المحرك للغضب وجمعها مُحِفظات ,ولها معنى ثاني هو المصائب (4 ) . واسم المفعول من الفعل حفظ هو محفوظ , وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في قوله تعالى ” بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ” (5 ) .

قال أبو اسحق أي القرآن في لوح محفوظ وهو أم الكتاب عند الله عز وجل وقرئت محفوظ وهو من نعت قوله تعالى (6 ). والمعنى أنه مصون عن التحريف أو التبديل , ويصح جمع محفوظ قياساً على محفوظات , مثل مشروب ومشروبات ومأكول ومأكولات … الخ .

ومهم يكن من أمر فإن المعاني التي أوردتها المعاجم العربية لهذه الكلمة تنصب أساساً على مفهوم واحد هو المنع والإمساك , ولا نلمح فيها ما يشير إلى الإباحة والتداول .

وتأسيساً على ذلك نرى قصر استخدام هذه الكلمة على ما لم يعد متداولاً من الوثائق الإدارية في العمل العام فكلمة محفوظات إذن يمكن أن تكون مرادفة لعبارة الأرشيف الساكن . ومن الأفضل أن تستخدم بدلاً منها . وهذا المعنى الذي نراه يتفق مع ما جاء  بدائرة معارف المكتبات حيث عرفت المصطلح بأنه” المستندات التي جنبت بقصد الحفظ تحت رعاية الدولة , حيث يجب المحافظة على كيانها ” (7 ) .

ومما سبق يمكن اقتراح تعريف المحفوظات بأنها :

” كل الوثائق الإدارية التي أتعدم تداولها تماماً في إداراتها المنشئة , وفقدت بالتالي كل قيمتها الإدارية , وتم تجنيبها وحفظها في مكان منعزل بغرض تقييمها وغربلتها وانتقاء ماله قيمة للأبحاث التاريخية والاقتصادية والاجتماعية تمهيداً لتحويله  إلى المؤسسات الأرشيفية  , والنظر في أمر إهلاك ما ليس له تلك القيمة .

*-  أهمية الوثائق ورسالتها الحضارية :

يجمع العلماء العرب على صحة القول : ” إذا بحثت ففتش ، وإذا كتبت فقمش ” (1 ) . الذي يؤكد على حكمة بالغة، ويمثل أوج ما وصلت إليه التقنية العلمية في تحديد مفهومي الوثائق والمحفوظات ، فالبحث والتفتيش لا يكونان إلا في الوثائق ، هذه التي سنحدد أنواعها والموضوعان التي تتناولها ، أما التقميش فلا يصح إلا في ما كتب أو جمع ،وكأني بالعقل العربي الذي عاين البحث والتفتيش والكتابة والتقميش قد وضع أساً ثابتاً في الدراسة العلمية للوثائق والحفظ قبل أن يأخذ هذا العلم دوره في التقنية المعاصرة وقبل عبارة ” الانفجار الوثائقي ” التي شاعت في الوسط العلمي قبل عقود دون أن يعمل النقد على دراستها (2).

فالوثيقة في التعريف : هي كل ما يعتمد عليه، ويرجع إليه للأحكام أمر ، وتثبيته وإعطائه صفة التحقق والتأكد من جهة ، أو ما يؤتمن على وديعة فكرية أو تاريخية تساعد في البحث ، أو تكشف عن جوهر واقع ما ، أو تؤكد عقداً بين اثنين أو أكثر.

والوثيقة- مع تعدد مصادرها ، واختلاف أنواعها ، وتباين عصورها، وتفاوت لغاتها- عامل فعال في خدمة الحضارة الإنسانية لأنها ضمير الشعوب وعنوان بارز في تاريخها حتى إذا قدر لهذه الشعوب أن تحفظ هذه الوثائق بأنواعها غدت الذاكرة الواعية، كما أضحت سجلاً حافلاً لتقدمها وتطورها فإذا هي رافد غني ، ومدماك اساسي ، ورسالة تواصل بين أجيال مختلفة فضلاً عن أنها عبرة للماضي ، ومدخل لاستقرائه من أجل بناء المستقبل .

وربما وباختصار نستطيع أن نوجز دور أهمية الوثائق ونتحقق من أثرها في ما أكده العالمان الكسندر وبيرك  ” إنه لو تحطمت كل الآلات الحديثة ومعامل الذرة وبقيت دور الوثائق والمكتبات لتمكن رجال العصر من إعادة بناء الحضارة الآلية والذرية ، ولكن لو ضاعت الوثائق والكتب فإن عصر القوى الآلية وعصر الذرة يصبحان شيئاً من الماضي ” .

مع هذا الرأي من الضروري أن نسلط الضوء باختصار على أنواع الوثائق .

*- أنواع الوثائق  وأشكالها:

1- الوثيق الكتابية :

لبس من شك في أن هذا النوع من الوثائق هو الذي يعتمد عليه لأنه يقوم على واقع ثابت لا يحتاج إلى دراسات مطولة ، أو اجتهادات ، أو خبرات قائمة على الترجيح والتخمين .

ويقصد بالوثيقة الكتابية كل ما  أؤتمن على وديعة مخطوطة باليد ، أو مطبوعة ، فالرسالة والدورية ، والتي هي في علم التوثيق كل نشرة تحتوي على عدة موضوعان لعدد من الكتاب ، أو المحررين  ولها أسم خاص هو عنوانها الذي تعرف به ، وتظهر بأجزاء متتابعة وفي مدد

1- القول لأبي حاتم الرازي ، وقد جاء في كتابه : طبقات التابعين .

محددة ، ولزمن معين ، وتشتمل عادة :

آ-الصحف التي تهتم بملاحقة  الأخبار الآنية محلية أو دولية ونشرها وغالباً لا تتحقق في كل ما تنشر، وفي نطاق ذلك تظهر المجلات على تعدد موضوعاتها واهتماماتها.

ب- المذكرات وهي ما يخلفه الرجال النابهون سياسيون أو علماء ،أو أدباء فيدونون فيها خواطرهم ولأحداث الآنية التي عاشوا واقعها ،وذكرياتهم .

ج- التقارير وهي صورة لنتائج علمية ، أو تحقيقات إدارية أو عرض لواقع ما.

د- البيانات وهي ما يعرض فيها وجهات نظر خاصة ومعينة تميط اللثام عن أمر غامض ، وكثيراً ما تصدر عن هيئات ومؤسسات ومصارف  …. الخ والتي يحاولون فيها نشر ما ينير أفكار الناس نحو موضوع ما أو التأكيد على وجهة نظر معينة .

2- الوثيقة التصويرية :

يأتي هذا النوع من الوثائق في درجة تلي الوثيقة الكتابية والتي تعتبر في علم التوثيق وثيقة مساعدة بمعنى لا يعتمد عليها وحدها وإنما يعتمد عليها لان الجوهر فيها موضوع ترجيح وتشكيك ،كما لا ينظر إليها إلا في حال استطاعت أن تنير جانباً من البحث، وهكذا تساعد على التحقق والكشف وهي على الغالب : رسم ما  نقل بالزيت، أو بالقلم ، أو بالفحم ،وصورة أو نقش  في الحجر ، أو تنزيل بالخشب ، أو تكوين في الجص …. الخ وربما تكون هذه الوثيقة صورة شمسية تعين على التحقق ، فالهوية الشخصية ، وجواز السفر لا يعتد بهما كوثيقتين في إثبات الشخصية بالرغم من صدور هما عن دائرتين رسميتين إلا إذا كان كل منهما يحمل صورة الشخص ، والصورة مصدق عليها من مرجع قانوني وممهورة  بخاتم رسمي .

فالصورة  الشمسية جاءت هنا  مساعدة للوثيقة الكتابية التي هي الهوية الشخصية ، أو جواز السفر .

3- الوثيقة التشكيلية :

تعتبر هذه الوثيقة كسابقتها في إطار الوثائق المساعدة وربما جاءت في منزلة الوثيقة التصويرية لأنها مماثلة لها في كثير من المقومات وهي عادة بناء كدار لرجل مرموق ، أو مركز لمؤسسة رسمية يخضع مع الزمن للتحقق والتثبت، فمثلاً البيت الذي عاش فيه جبران خليل جبران يعتبر اليوم من الوثائق المساعدة في تحديد مستوى عائلة جبران وما رسمه يدل على عبقرية جبران …الخ .

4- الوثيقة السمعية :

وتدخل هذه أيضاً في نوع الوثائق المساعدة التصورية والتشكيلية ، وهي في الغالب تسجيلات صوتية ، أو إذاعية ، أو تسجيل اسطواني ، أو شريط سينمائي  ناطق . هذه الوثيقة دخلت في مجموعة الوثائق المساعدة مع التطور المعاصر وبعد ظهر الكهرباء وابتكاراتها الصناعية والآلية،ومن ثمة الالكترونيات التي أغنت هذا النوع من الوثائق التي يعتمدها الخبراء في دراسة الغناء ومستوى الصوت وطبقاته عند المغنين . ولقد دخلت هذه الوثيقة السمعية اليوم كل بيت إذ  أن كثير من العائلات يلذ لها تسجيل الكلمات الأولى لأطفالهم ، خلال مناسبات متعددة ومع تقدمهم في الحياة فتحفظ لهم بذلك وثيقة غنية بالعبر والعظات .

وفي ظل مل تقدم نؤكد على أن الوثائق في جوهرها فئتان اثنتان وفي أنواعها أربع : الأصلية وهي الوثيقة الكتابية ، والمساعدة وهي الوثائق التصويرية ، والتشكيلية أو السمعية وهي كلها إما مدونة بالقلم ، أو منحوتة بالأزميل ، أو منقوشة بالحجر ،أو مسجلة على أشرطة ممغنطة. وهي جميعاً وعلى تعدد أنواعها واختلاف أسمائها تعين على التثبت والتحقق (1 ) .

*- الأتمتة والوثائق :

بعد التوسع الهائل في النتاج الفكري الإنساني وما تمخض عنه من وثائق ونشرات ودوريات وأبحاث وغيرهما من النتاج الفكري الإنساني الذي فاق المليارات من الوثائق. أصبح هناك حاجة ماسة  للبحث عن طرق غير تقليدية   لتنظيم وترتيب وحفظ هذا الكم الهائل من الوثائق بغية استرجاعها عندا لحاجة  ، فظهرت الحاجة الماسة للاستخدام الحاسب الآلي وتقنيات ثورة الاتصال في حفظ الوثائق واسترجاعها ، ولما كان التعامل مع قواعد البيانات من أهم المهام التي تقوم بها الحاسبات بكفأة . كان من الطبيعي أن يستخدم الكمبيوتر نظراً لقدرته العالية في التخزين وسرعة في الاستجابة ودقته الفائقة في الحصول على المعلومة  . لاشك أن الاستخدام الامثل للحاسب الآلي في حفظ الوثائق  واسترجاعها يتمثل في إمكانية الاحتفاظ بصورة هذه الوثائق في وسيلة تخزين مرتبطة بالحاسب  ، أو باستخدام برمجيات عالية الاستيعاب مثل الأقراص الليزرية والأقراص المضغوطة وغيرها من وسائط التخزين التي تستوعب الألف الوثائق وتسهل عملية استرجاعها وتنظيمها ، باعتماد برامج خاصة بتخزين الوثائق . هذه البرامج تحتوي على معلومات كافية لحصر الوئائق عند الاسترجاع كموضوع الوثيقة ومؤلفها وتاريخها وملخصاها ومكان تخزينها …. بحيث تتيح برامج التوثيق الآلي استرجاع الوثيقة بعدة طرق ، كما تتيح استنساخها ورقياً عند الحاجة ، ويستخدم الماسح الضوئي لتصوير الوثائق بدقة فائقة  وسرعة  هائلة .

أ-   “الموضوعان ذات الصلة “:

1-رمضان عبد المعطي، الحاسبات في خدمة التوثيق الإداري ، القاهرة ,2000

2- محمد أمان ، ياسر عبد المعطي ، النظم الآلية والتقنيات المتطورة للمكتبات ومراكز المعلومات ، الرياض ،جامعة الرياض ،1998 .

3- برجس عزام ، المحفوظات ، الوثائق الجارية ، منشورات جامعة دمشق ، 1994 .

ب-   “مراجع للاستزادة  “:

1-     الأمين عبد الكريم إبراهيم ، الوثائق : فهرستها وتصنيفها ، مجلة الوثائق العربية . العدد الثالث ،1997 .

2-       احمد محمد الشامي ، إدارة المحفوظات : تنظيمها ورفع كفاية العاملين فيها . القاهرة ،( د .ت) .

3-      شحاته إبراهيم، إدارة وتنظيم المحفوظات . الرياض ,1988 .

ج- “المصادر التي رجع إليها الباحث” :

1-     مالك محمد محجوب ، الأرشيف : تاريخه ، أصنافه ، أدارته، بغداد ،1979 .

2–اللامين عبد الكريم ، التصنيف والفهرسة في علم المكتبات، بغداد ، مطبعة المعارف،1963.

3- حسين محمد احمد ، الوثائق التاريخية ، القاهرة، 1954 .

4- عبدا لله أنيس الطباع ، علم الإعلام ، الوثائق والمحفوظات ، بيروت ، دار الكتاب     اللبناني ،1980.

5- . – لائحة محفوظات الحكومة المصرية الصادرة عام 1953 .

-6 –  الشربيني / تاريخ دار المحفوظات , , ص 1 .

7  – ,سلوى ميلاد / قاموس مصطلحات الوثائق والأرشيف,ص ,9 .

8 –   سور البروج : 21-22 .

9 –  ابن منظو ر/ لسان العرب ,فصل الحاء حرف الظاء .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى