الإنترنت أم المكتبة أيهما يلغي الآخر
منذ بزوغ نجم الانترنت وهي تستحوذ على اهتمام كثير من الناس لأسباب كثيرة ومتعددة. فمن الناس من اهتم بها لإمكاناتها في وصل الناس ببعض عن طريق المرسل ( البريد الالكتروني ), ومنهم من أفاد منها في التواصل مع عائلته وأصدقائه بالمحادثة الالكترونية ثم بالحديث الهاتفي من خلالها. ومن الناس من انصب اهتمامه على مقدرة الانترنت اختراق الحواجز الرقابية على المعلومات والمعارف التي لا تجد قبولا سياسيا أو اجتماعيا في هذا البلد أو ذاك. ومن الناس من تركز اهتمامه على الانترنت كوسيلة سهلة ورخيصة في البحث عن المعلومات بشكل آني وسريع إما لأغراض بحثية ودراسية أو لأغراض اقتصادية وتجارية أو بهدف ترويجي أو خلاف ذلك. كما أن فئة من الناس وجدت في الانترنت وسيلة مثالية بواسطتها تمكنوا من الحصول على الدرجات العلمية أو المهنية من الجامعات أو المعاهد والكليات التي تشجع على التعليم عن بعد.
ومن بين كل فئات المجتمع العاملة, كانت فئة العاملين في المكتبات ومراكز المعلومات من أكثر الفئات المهنية التي نظرت وتنظر للانترنت بعينين متفاوتتين ومتباينتين. نظرة مرحبة ومتعطشة كون الانترنت يمكن لها أن تكون ساعدا أيمنا لهم في تنفيذ أعمالهم وفي تقديم خدمات متميزة وسريعة لزبائنهم كالتي يحلمون بها منذ زمن بعيد. بل إن الانترنت تكاد تكون النموذج الذي كان يتطلع إليه منظرو الخدمات المعلوماتية الذين يعود المكتبيون إلى أعمالهم وكتاباتهم عندما كانوا يتنبؤن بمستقبل الخدمات المعلوماتية مثل فانيفر بوش وليكلايدر وغيرهما.
أما النظرة الثانية فكانت نظرة التوجس والريبة والحذر من هذا” العملاق” الذي يمكن له أن ” يأكل الأخضر واليابس” في طريقه. ومرد هذه النظرة يعود إلى إمكانيات الانترنت العالية “ومواهبها” المتعددة التي قد تسحب البساط من تحت أقدام العاملين في المكتبات ومراكز المعلومات والذين استطاعوا المحافظة على هذه المهنة وتطويرها وتمكينها من سحب اعتراف المجتمع بها كمهنة مهمة.. بل واستطاعوا إقناع الجامعات بإعداد برامج الدراسات العليا التي تمنح الماجستير والدكتوراه في هذا العلم مما يعني الكثير في ترسيخ مكانة هذه المهنة.
ووجل المعلوماتيين والمكتبين من الانترنت أمر في محله, ذلك أن كثيرا من الناس يشعر اليوم أن الانترنت يمكن لها أن تغني عن المكتبات ومراكز المعلومات. ولقد سمعت في أكثر من موقع وفي أكثر من مكان مسؤليين كبارا عن مرافق معلوماتية يتساءلون إن كانت مرافق المعلومات لا زالت تستحق البقاء/الصرف عليها؟! بل إن زميلا يحمل درجة الدكتوراه (كنت وإياه في زيارة لأحد مراكز المعلومات) قال لرئيس المركز:” إننا لا نأتي كثيرا هنا بسبب مشاغلنا ( الله يعين عليها ), ثم إن الانترنت أصبحت الملاذ للباحث عن المعلومات”! وهذا الاعتقاد أصبح شائعا لدى كثير من المثقفين فضلا عن عادة الناس, الأمر الذي يدعوني أن أتساءل معهم إن كانت الانترنت تغني عن المكتبة؟!
لا تغني لعشرة أسباب:
لقد عدد مارك هيرنق في مقالة نشرها في أمريكان لا يبراريز American Librariesعشرة أسباب لا تمكن الانترنت من أخذ مكانة المكتبة يمكن أن نستنير ببعضها في هذا السياق:
ليس كل شيء على الانترنت:
برغم أن الانترنت تحوي ما يفوق بليون صفحة ( حتى لو أن شكلها لا يوحى أنها تحوي مثل هذا الحجم) لكن المعلومات ” القيّمة ” المتاحة مجانا على الانترنت قليلة جدا. فهناك نحو 8% من الدوريات فقط على الانترنت, وكمية أصغر من ذلك من الكتب. والسبب في هذا النحو الضئيل من المعلومات ” المهمة ” على الشبكة يعود إلى تكاليفها الباهظة. فالدوريات العلمية المهمة لا يمكن أن تجدها على الشبكة مجانا, بل بأسعار كبيرة جدا, قد يقدرها من يستطيع دفع تلك التكاليف, ولكن يتوجب عليه أيضا أن يعلم أنه ” يدفع ” مقابل خدمة لا تملك. بمعنى أن الدوريات في السابق كان يتم الاشتراك فيها على ورق أو على أقراص مليزرة بحيث تمتلكها المكتبة المشتركة. أما اليوم فإن الاشتراك يقتضي فقط قراءتها بمحددات معينة حسب الاتفاقية المبرمة بين النشر وبين المشتركين على الانترنت. فمن الناشرين من يعطي حقوقا كبيرة فيما يخص التصفح لأكثر من مستفيد من المكتبة المشتركة والطباعة لعدد محدد أو غير محدد وهذه أمور توضع في الحسبان عند البحث عن ناشرين أو وكلائهم على الانترنت وتتم مناقشتها وفهمها قبيل المضي قدما لتوقيع العقد.
مكتبة ضخمة بلا تنظيم:
يمكن تمثيل الانترنت بالمكتبة الضخمة غير المنتظمة وغير المفهرسة. وبصرف النظر عن محرك البحث الذي تستخدمه أو حتى مجموعة الحركات مجتمعة, فإنك لن تستطيع بحث المحتوى الكامل للانترنت. وهذه حقيقة برغم أن العديد من المحركات تدعي أن في إمكانها ذلك، لكنها تفشل في القيام ببحث موجودات كامل الشبكة. ولهذا أسباب فنية وتقنية وهيكلية يمكن مناقشتها في مكان آخر. كما أن ما تقوم ببحثه هذه المحركات قد لا يكون محدثا بشكل يومي أو أسبوعي أو حتى شهري, الأمر الذي لا يتطابق مع ما تتضمنه إعلانات تلك المحركات.
ومن الطريف في الأمر لو أن مكتبيا يقدم عشرة مقالات لباحث ويقول له لدينا ثلاثون بحثا أخرى لن نقدمها لك إلا بعد أن تبحث في مكتبات أخرى. لا شك أن الباحث سيظهر تذمرا كبيرا وربما ترك ما بيده وأطلق صيحات استهجان! بيد أن هذا ما تفعله الانترنت بشكل روتيني ولا مكترث!
الجودة غير متوفرة:
من المميزات للنشر التقليدي والمكتبات التقليدية التي تميزهما عن النشر الالكتروني والانترنت ميزة الجودة. وهذه الميزة نسبية على كل حال, لكنها مهمة كون أي إنسان بإمكانيات متواضعة يمكن له النشر على الانترنت دون رقابة ودون المرور على مخاطر الفشل في النشر أو إن كان ما يقوم بنشره سيمر على آخرين يقوّمون هذا العمل, ومدى نجاحه في استقطاب جمهوره له. هل سيكون لهذا الكتاب جمهور يشترونه ويحفظونه لديهم أو يكتبون عنه؟ وهل ستقوم المكتبات باقتنائه وإتاحته للجمهور؟
اليوم, أي إنسان بإمكانه استئجار موقع على الانترنت أو حتى البحث عن موقع بالمجان ويغرق الانترنت “بخزعبلات” ما كان له أن يغرق السوق بها من قبل!
لا شك أن محاسن الانترنت كثيرة منها تجاوز الحدود والسرعة الفائتة في الوصول للمعلومات, والرخص فيما يخص الكثير من المعلومات وغير ذلك كثير.
لكن هنالك حاجة ملحة لمتابعة جوده ما ينشر. والأمل كبير فيما تفوح به جمعية الانترنت ومعهد الانترنت في هذا المجال لاستصدار تشريعات وقوانين يمكن أن تنظم هذا الشأن مع المحافظة على الحرية التي تتمتع بها الشبكة العنكبوتية.
ما تجهله قد يضرك:
تعتبر رقمنة الدوريات ووضعها في متناول المستفيدين في أماكنهم إحدى أهم مميزات الانترنت إذا نظرنا لها من زوايا سرعة الوصول للدورية, وعدم انتظار الشحن ومن ثم استلام البريد وفرزه وفهرسة وتصنيف الدورية (إدخال معلوماتها على النظام) قبل وضعها على أرفف الدوريات الواصلة حديثا, كما أن مميزات البحث الشمولي عن كلمة أو مصطلح في عدد معين أو أعداد كثيرة, وبمداخل مختلفة, كل ذلك يضاف إلى الحسنات, وبخاصة أن التقدم التكنولوجي يسارع في تقديم الحلول لمشكلات الشكل والحيز التي كانت تقف دون الإفادة الكاملة من الصور والإيضاحيات التي تتضمنها عادة بحوث الدوريات. ولكن تظل هناك فئة من تستخدم تقنيات “سيئة” لا تفي بمتطلبات إظهار تلك الايضاحيات متكاملة، وهو الأمر الذي يضر بمظهر المقالات وبالتالي تتقلص الإفادة منها. و هناك بعض المقالات على عدد من المواقع تأتي مجتزأة, وغالبها ما افتقدت للهوامش. كما أن بعض التقنيات التي تستخدم لعرض المقالات والبحوث تخدم المستفيد الذي يقرأ على الشاشة بحيث إذا وصل لهامش معين وأراد أن يستعرض ذلك الهامش فما عليه إلا أن يضغط بالمؤشر على رقم الهامش فتظهر له التسجيلة Citation . لكن الهوامش في آخر المقال لا تظهر “مسردة” في مثل هذه التقنية التي يعتمد ظهورها فقط على الهايبرتكست Hypertext.
كذلك من الأمور السلبية ما نلحظه من تغير في عناوين بعض الدوريات الالكترونية (لسهولة ذلك), وهو أمر مزعج للكتاب والباحثين والطلاب, ولا يخدم العملية التعليمية ولا العلم والثقافة Culture and Scholarship.
كتاب واحد إقليمي كامل؟
لقد أدى التقدم التقني إلى الاعتقاد بإمكانية إيجاد مدرسة ثانوية لكل البلد, وجامعة واحدة لكل البلد, وعدد من المدرسين والمحاضرين يقدمون محاضراتهم باستخدام البث المباشر على الانترنت Video Conferencing. إن معدل نشر الكتب يصل إلى خمسين ألف عنوان سنويا منذ عام 1970م.
لكن ما ينشر على الانترنت لا يتجاوز عدة آلاف من بين نحو مليوني عنوان نشرت منذ ذلك الحين, والسبب يعود إلى ارتفاع التكاليف (حقوق النشر والتأليف). ولذا فنجد على الشبكة نحو عشرين ألف عنوان نشرت معظمها قبل عام 1925 لعدم وجود حقوق تأليف عليها.
كذلك, فإن الناشرين يعمدون إلى إعطاء المكتبات صلاحيات استخدام الكتاب الإلكتروني من قبل شخص واحد بحيث إذا استعاره مستفيد لا يمكن للآخرين الإطلاع عليه إلا إذا أعاد هذا المستفيد الكتاب (الالكتروني), وهو ما يعني ارتفاع شديد في التكاليف مقابل استخدام محدد! الشيء الذي يمكن أن يحل هذه المعضلة هو تنامي وارتفاع عدد المكتبات التي تشترك حتى تنخفض الأسعار, مع إيجاد ضوابط “لتحجيم طمع” بعض الناشرين, وهو ما يحتاج إلى دراسات علمية معقمة وإلى تشريعات منطقية قابلة للتطبيق والتبني وجمعيات ذات سلطات نافذة “تجبر” الجميع اختياريا على التماشي معها.
الكتاب التقليدي: مميزات طبيعية:
الكتاب الالكتروني: مميزات (مصطنعة):
لقد نسي كثير من المكتبيين والمعلوماتيين ما قالوه وسمعوه وقرأوه عن اضمحلال دور الكتب والمكتبات المتوقع مع بزوغ نجم الأقراص المليزرة بالأمس القريب, حتى غدا بعضهم يسارع في التنبؤ بانتهاء عصر الكتاب! وقبلها طال الحديث حول اختصار المكتبة إلى خزانة بحجم خزانة “الأحذية” مع وجود أشرطة الميكروفيلم. كما ذهب البعض إلى أن الحاجة إلى وجود هذه العدد الكبير من المعلمين ستتناقص في المستقبل يفضل وجود التلفزيون التعليمي. وفي الآونة الأخيرة ظهرت موضدة الكتاب الالكتروني على شكل حاسوب صغير Portable أو قارئ الكتاب الالكتروني e-Book Reader. ورغم المميزات الكثيرة التي يمتلكها هذا الجهاز الالكتروني في أساليب العرض وإمكانيات البحث المتعددة, لكن الذين جربوا استخدامه للقراءة اشتكوا من الصداع وتعب العينين بعد فترة وجيزة.
يضاف إلى كل ذلك الأسعار المرتفعة لهذا القارئ التي تتراوح بين 800 ريال إلى 8 آلاف ريال, وكلما رخص ثمنه كانت مشكلاته على العين أكبر. رغم أن هذه الأسعار ستنخفض بالطبع فيما لو انتشرت التقنية لدى الناس وأصبح الناس يتقلبون القيام بالقراءة على هذا الجهاز, وبالتالي ازدياد الطلب على الشراء! الشيء الأغرب للتصديق _ أن الكتاب العادي قد بزّ منافسيه ليس خلال العقود الماضية فقط, بل خلال قرون طويلة, والأقرب أن يتجاوز هذه المخترعات أيضاً…!
لا جامعة بدون مكتبة:
لقد عمدت جامعة مونتري الحكومية ( ولاية في كاليفورنيا الأمريكية ) التي افتتحت حديثا, إلى تجاهل تخصيص مبنى للمكتبة. لكنهم في السنتين الأخيرتين وجدوا أنفسهم يشترون كتبا بعشرات الآلاف من الدولارات لأنهم لم يجدوا ما يحتاجونه على الانترنت. كذلك قامت جامعة ولاية كاليفورنيا التقنية الحكومية ( التي تعد معقل أفضل مهندسي الحواسيب في العالم ) بدراسة تبني مكتبة افتراضية متكاملة, وذلك لمدة سنتين. وكان مقترحهم إيجاد مكتبة تقليدية بتكلفة 42 مليون دولارا مع مكونات عالية التقنية. الأمر الذي يشير أنه لم يحن الوقت بعد لمكتبة افتراضية تستغني وتغني المستفيدين منها عن مصادر المعلومات التقنية. ليس بعد, وربما ليس في حياتنا نحن!
افتراضية بالكامل … إفلاس:
ماذا لو قررت دولة ما تبني مشروع لإنشاء مكتبة افتراضية كاملة لا تحتاج معها إلى غيرها من المصادر التقليدية للمعلومات؟! بالطبع ممكن, من الناحية الفيزيائية والتقنية. لكن من الناحية الطبيعية لا أظن ذلك ممكنا, كونه سيقود تلك الدولة للإفلاس. فتكاليف رقمنه كل شيء عالية جدا, فضلا عن تكاليف حقوق النشر والتأليف التي تقف ” سدا منيعا ” حيال تحقيق هكذا مشروع. وهذه التكاليف ستكون لمكتبة واحدة فقط, فما بالك إذا أخذت في الحسبان أن تبنى أكثر من مكتبة, أو أن تضع في الحسبان كل مواطني البلد مستفيدين محتملين لهذه المكتبة, إن هذا التفكير سيرفع التكاليف ( حقوق النشر والتأليف ) إلى أرقام لا يمكن التعامل معها.
لقد قامت شركة كوسشيا ميديا Questia Media كأكبر شركة من نوعها في هذا المجال, بافتتاح أول مجموعاتها التي تكلفت في رقمنه خمسين ألف كتاب فيها ما يتجاوز 125 مليون دولار. ولو أخذنا تكاليف هذه الشركة كمعيار لقياس تكاليف مكتبة تحتوي على 400 ألف كتاب فإن ذلك يقودنا إلى نحو مليار دولار. لا شك أن هذا القياس للمناقشة فقط, و إلا فليس من المعقول ولا من المقبول أن تقوم المكتبات نفسها بالرقمنة وتعود إلى عهد البائد ما كانت هي كفهرس كتبها بنفسها وتعد بطاقاتها بنفسها. لا بد للمكتبات أن تعمد إلى الإفادة من القطاع الخاص والتكتلات المكتبة لتجاوز مثل هذه الأعباء[i]. ومما يرفع الأسعار حجم الصلاحيات التي تعطي للمستفيدين, عند عمل عقود شراء حقوق التأليف, وكذلك حجم المستفيدين المتوقع بناء على عدد طلاب الجامعة التي تخدمها المكتبة, مثلا.
[i] – جاءت الفهرسة الجارية Cataloging In Publication (CIP) كحل أفاد المكتبات بشكل لم يسبق له مثيل في خفض تكاليف الفهرسة وفي عمل توحيد مهم في رؤوس الموضوعات والتسجيلات التي كانت مهمة للغاية عند تبادل التسجيلات والمشاركة في الفهارس. وهذا يقودنا بالتالي للتساؤل إن كانت المكتبات معينة بأن تقوم بنفسها بكثير من الأعمال اليوم في ظل وجود المقاولين المناسبين والأقل تكلفة، شريطة أن تكون هناك تشريعات مناسبة متفق عليها ومعمول بها.